فصل: تفسير الآيات (80- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (80- 82):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}.
يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام، ومننه الجسام، حيث نَجَّاهم من عدوهم فرعون، وأقر أعينهم منه، وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما قال تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50].
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا رَوْح بن عبادة، حدثنا شعبة، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال: «نحن أولى بموسى فصوموه». رواه مسلم أيضًا في صحيحه.
ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن، وهو الذي كلمه تعالى عليه، وسأل فيه الرؤية، وأعطاه التوراة هناك. وفي غُضُون ذلك عَبَدَ بنو إسرائيل العجل، كما يقصه تعالى قريبا.
وأما المن والسلوى، فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها. فالمن: حلوى كانت تنزل عليه من السماء. والسّلوى: طائر يسقط عليهم، فيأخذون من كل، قدر الحاجة إلى الغد، لطفًا من الله ورحمة بهم، وإحسانًا إليهم؛ ولهذا قال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي: كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم، ولا تطغوا في رزقي، فتأخذوه من غير حاجة، وتخالفوا ما آمركم به، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي: أغضب عليكم {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: فقد شقي.
وقال شُفَيّ بن ماتع: إن في جهنم قصرًا يُرمى الكافر من أعلاه، فيهوي في جهنم أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال، وذلك قوله: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي: كل من تاب إليّ تبتُ عليه من أي ذنب كان، حتى إنه تعالى تاب على من عبد العجل من بني إسرائيل.
وقوله: {تَابَ} أي: رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو نفاق أو معصية.
وقوله: {وَآمَنَ} أي: بقلبه {وَعَمِلَ صَالِحًا} أي: بجوارحه.
وقوله: {ثُمَّ اهْتَدَى} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي ثم لم يشكك.
وقال سعيد بن جبير: {ثُمَّ اهْتَدَى} أي: استقام على السنة والجماعة.
ورُوي نحوه عن مجاهد، والضحاك، وغير واحد من السلف.
وقال قتادة: {ثُمَّ اهْتَدَى} أي: لزم الإسلام حتى يموت.
وقال سفيان الثوري: {ثُمَّ اهْتَدَى} أي: علم أن لهذا ثوابًا.
وثم هاهنا لترتيب الخبر على الخبر، كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17].

.تفسير الآيات (83- 89):

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89)}.
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون، وافوا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138، 139] وواعده ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها له عشرًا، فتمت له أربعين ليلة، أي: يصومها ليلا ونهارًا. وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك. فسارع موسى عليه السلام مبادرًا إلى الطور، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} أي: قادمون ينزلون قريبًا من الطور، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أي: لتزداد عني رضا، {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري. وفي الكتب الإسرائيلية: أنه كان اسمه هارون أيضًا، وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة، كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] أي: عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري.
وقوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي: بعد ما أخبره تعالى بذلك، في غاية الغضب والحَنَق عليهم، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم، وتَسَلّم التوراة التي فيها شريعتهم، وفيها شرف لهم. وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يَعْلَمُ كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة عقولهم وأذهانهم؛ ولهذا رجع إليهم غضبان أسفًا، والأسف: شدة الغضب.
وقال مجاهد: {غَضْبَانَ أَسِفًا} أي: جزعًا.
وقال قتادة، والسدي: {أَسِفًا} أي: حزينًا على ما صنع قومه من بعده.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أي: أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم، وإظهاركم عليه، وغير ذلك من أياديه عندكم؟ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أي: في انتظار ما وعدكم الله. ونسيان ما سلف من نعمه، وما بالعهد من قدم. {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} {أم} هاهنا بمعنى بل وهي للإضراب عن الكلام الأول، وعدول إلى الثاني، كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا} أي: بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم: {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي: عن قدرتنا واختيارنا.
ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حُلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم، حين خرجوا من مصر، {فَقَذَفْنَاهَا} أي: ألقيناها عنا. وقد تقدم في حديث الفتون أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار.
وفي رواية السُّدِّيّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس: إنما أراد هارون أن يجتمع الحُلي كله في تلك الحفيرة ويجعل حجرًا واحدًا. حتى إذا رجع موسى يرى فيه ما يشاء. ثم جاء بعد ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته، فدعا له هارون- وهو لا يعلم ما يريد- فأجيب له فقال السامري عند ذلك: أسأل الله أن يكون عجلا. فكان عجلا له خُوار، أي: صوت، استدراجًا وإمهالا ومحنة واختبارًا؛ ولهذا قالوا: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حَمَّاد عن سماك، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ أن هارون مَرَّ بالسامري وهو ينحت العجل، فقال له: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون: اللهم اعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون، فقال السامري: اللهم إني أسألك أن يَخُور فَخَار، فكان إذا خار سجدوا له، وإذا خار رفعوا رؤوسهم.
ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال: أعمل ما ينفع ولا يضر.
وقال السدي: كان يخور ويمشي.
فقالوا- أي: الضُّلال منهم، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه-: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أي: نسيه هاهنا، وذهب يتطلبه. كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس. وبه قال مجاهد.
وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس: {فَنَسِيَ} أي: نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم.
وقال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} قال: فعكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوا شيئًا قط يعني مثله، يقول الله: {فَنَسِيَ} أي: ترك ما كان عليه من الإسلام يعني: السامري.
قال الله تعالى ردًّا عليهم، وتقريعًا لهم، وبيانًا لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي: العجل {أَفَلا يَرَوْنَ} أنه لا يجيبهم إذا سألوه، ولا إذا خاطبوه، {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي: في دنياهم ولا في أخراهم.
قال ابن عباس رضي الله عنه لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج فيه، فيسمع له صوت.
وقد تقدم في متون الحديث عن الحسن البصري: أن هذا العجل اسمه بهموت.
وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط، فألقوها عنهم، وعبدوا العجل. فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر: أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب- يعني: هل يصلي فيه أم لا؟- فقال ابن عمر، رضي الله عنه: انظروا إلى أهل العراق، قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني: الحسين- وهم يسألون عن دم البعوض؟.

.تفسير الآيات (90- 91):

{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)}.
يخبر تعالى عما كان من نَهْي هارون، عليه السلام، لهم عن عبادة العجل، وإخباره إياهم: إنما هذا فتنة لكم {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ} الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا، ذو العرش المجيد، الفعال لما يريد {فَاتَّبِعُونِي} أي: فيما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه.
{قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أي: لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه. وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.

.تفسير الآيات (92- 94):

{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}.
يقول مخبرًا عن موسى، عليه السلام، حين رجع إلى قومه، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم، فامتلأ عند ذلك غيظًا، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، وقد قدمنا في الأعراف بسط ذلك، وذكرنا هناك حديث: «ليس الخبر كالمعاينة».
وشرع يلوم أخاه هارون فقال: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا تَتَّبِعَنِ} أي: فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي: فيما كنت تقدمت إليك، وهو قوله: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142]. قال: {يَا ابْنَ أُمَّ} ترفق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ، أي: في الحنو والعطف؛ ولهذا قال: {يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.
هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم قال {إِنِّي خَشِيتُ} أن أتبعك فأخبرك بهذا، فتقول لي: لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي: وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم.
قال ابن عباس: وكان هارون هائبًا له مطيعًا.

.تفسير الآيات (95- 98):

{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)}.
يقول موسى، عليه السلام، للسامري: ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟
قال محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان السامري رجلا من أهل بَاجَرْمَا، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان حُبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل. وكان اسم السامري: موسى بن ظفر.
وفي رواية عن ابن عباس: إنه كان من كرمان.
وقال قتادة: كان من قرية اسمها سامرا.
{قال بصرت بما لم يبصروا به} أي: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أي: من أثر فرسه. وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي بن عمارة، عن علي، رضي الله عنه، قال: إن جبريل، عليه السلام، لما نزل فصعد بموسى إلى السماء، بصر به السامري من بين الناس، فقبض قبضة من أثر الفرس قال: وحمل جبريل موسى خلفه، حتى إذا دنا من باب السماء، صعد وكتب الله الألواح وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح. فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال: نزل موسى، فأخذ العجل فأحرقه. غريب.
وقال مجاهد: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} قال: من تحت حافر فرس جبريل، قال: والقبضة ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع.
قال مجاهد: نبذ السامري، أي: ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا جسدًا له خُوار حفيف الريح فيه، فهو خواره.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى، أخبرنا علي بن المديني، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا عمارة، حدثنا عكرمة؛ أن السامري رأى الرسول، فألقي في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء، فقلت له: كن فكان فقبض قبضة من أثر الرسول، فيبست أصابعه على القبضة، فلما ذهب موسى للميقات وكان بنو إسرائيل استعاروا حلي آل فرعون، فقال لهم السامري: إنما أصابكم من أجل هذا الحلي، فاجمعوه. فجمعوه، فأوقدوا عليه، فذاب، فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت: كن كان. فقذف القبضة وقال: كن، فكان عجلا له خوار، فقال: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}.
ولهذا قال: {فَنَبَذْتُهَا} أي: ألقيتها مع من ألقى، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي: حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك.
{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} أي: كما أخذت ومَسَسْتَ ما لم يكن أخذه ومسه من أثر الرسول، فعقوبتك في الدنيا أن تقول: {لا مساس} أي: لا تماسّ الناس ولا يمسونك.
{وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا} أي: يوم القيامة، {لَنْ تُخْلَفَهُ} أي: لا محيد لك عنه.
وقال قتادة: {أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} قال: عقوبة لهم، وبقاياهم اليوم يقولون: لا مساس.
وقوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} قال الحسن، وقتادة، وأبو نَهِيك: لن تغيب عنه.
وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} أي: معبودك، {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي: أقمت على عبادته، يعني: العجل {لنحرقنه} قال الضحاك عن ابن عباس، والسدي: سَحَله بالمبارد، وألقاه على النار.
وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحمًا ودمًا، فحرقه بالنار، ثم ألقاه، أي: رماده في البحر؛ ولهذا قال: {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن، عن علي، رضي الله عنه، قال: إن موسى لما تعجل إلى ربه، عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل، ثم صوره عجلا قال: فعمد موسى إلى العجل، فوضع عليه المبارد، فبرّده بها، وهو على شط نهر، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب. فقالوا لموسى: ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضًا.
وهكذا قال السدي: وقد تقدم في تفسير سورة البقرة ثم في حديث الفتون بسط ذلك.
وقوله: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} يقول لهم موسى، عليه السلام: ليس هذا إلهكم، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو أي: لا يستحق ذلك على العباد إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له، فإن كل شيء فقير إليه، عبد لربه.
وقوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} نصب على التمييز، أي: هو عالم بكل شيء، {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28]، فلا {يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3]، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] والآيات في هذا كثيرة جدًّا.